أزمة زيت الزيتون في تونس- فساد، مافيا ومستقبل الصناعة

تشهد تونس منذ بضعة أسابيع أزمة عصيبة في قطاع زيت الزيتون، الذي يُعد من أهم وأبرز دعائم الاقتصاد القومي. تدهورت أسعار الزيت بصورة ملحوظة إلى مستويات متدنية لم يسبق لها مثيل، حيث انخفض سعر اللتر الواحد في المعاصر إلى ما يقل عن 10 دنانير تونسية فقط (أي ما يعادل 3.2 دولارات أمريكية)، وذلك بعد أن كان يباع في الموسم الفائت بسعر يصل إلى 25 دينارًا (أي ما يعادل 8 دولارات).
ومع توقف عمليات البيع والشراء وتراكم وتكدس الإنتاج بكميات هائلة في المعاصر، بات المزارعون يعانون معاناة بالغة من شُح السيولة النقدية وانعدام الطلب على منتجاتهم، الأمر الذي دفعهم إلى تعليق عمليات جمع الزيتون، بانتظار حلول جذرية قد تأتي ولكن بعد فوات الأوان. وقد أدى هذا الوضع المتردي إلى اندلاع موجة من الاحتجاجات العارمة في مختلف المناطق الريفية، والتي تُنذر بتفاقم الاحتقان الاجتماعي وزيادته.
أسباب الأزمة: حرب ضد الفساد بمآرب أخرى
لقد فاجأت الأزمة الراهنة الجميع بلا استثناء، وذلك بعد أن ساد انطباع عام عند بداية موسم الجني في أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بأن البلاد بصدد أن تشهد هذا العام موسمًا استثنائيًا بكل المقاييس، سيتجاوز فيه محصول الزيتون حاجز الـ 350 ألف طن، وستتحقق فيه بالتالي إيرادات قياسية للدولة من العملة الصعبة، وكذلك لشركات تصدير الزيتون والمعاصر والفلاحين.
إلا أن ملامح الأزمة بدأت تتبدى وتظهر للعيان بعد مرور أيام معدودة فقط من إيقاف صاحب أكبر وأهم الشركات المصدرة للزيت في تونس وذلك في اليوم الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2024، في إطار تحقيقات موسعة تجرى بخصوص ملفات فساد مالي وإداري، الأمر الذي أدى بدوره إلى توقف شركته بشكل كامل عن اقتناء الزيت من الفلاحين الصغار والكبار على حد سواء، مما أربك السوق المحلية تمامًا.
جاءت هذه الخطوة الجريئة على خلفية الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس قيس سعيد للمركب الفلاحي المعروف باسم "هنشير الشعال" يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإلقائه وابلًا من الاتهامات الصريحة بالفساد ضد المرتبطين بتلك التجاوزات الخطيرة، مع توعده بالمحاسبة الصارمة لكل من تورط في هذه المخالفات الجسيمة. وبالطبع، كانت تلك الزيارة فرصة سانحة لإلقاء خطاب شعبوي رنان، تعهّد فيه بمواصلة "حربه المقدسة لتطهير البلاد من الفساد المستشري".
إن استهداف صاحب أبرز وأكبر شركة خاصة في قطاع زيت الزيتون في البلاد بإجراءات تعسفية ارتجالية ومستعجلة، وذلك قبل فتح تحقيقات جدية وموضوعية، ودون الاكتراث بدراسة التداعيات والآثار الاقتصادية السلبية في بداية موسم واعد لأهم قطاع يدخل موارد مالية ضخمة للدولة، قد أدى في نهاية المطاف إلى شلل تام في القطاع بأكمله. إذ توقفت شركة CHO، الرائدة في مجال التصدير، عن العمل بشكل كامل، مما ألقى بظلاله القاتمة على قدرة تونس على تصدير فائض إنتاجها من الزيت.
وفي ذات السياق، يعاني الهيكل الرسمي المعني بالإشراف المباشر على قطاع الزيت، ألا وهو الديوان الوطني للزيت، من أوضاع كارثية هيكلية وبنيوية، جعلته غير قادر على التدخل بشكل فعال وحاسم لإنقاذ القطاع من الانهيار، حيث لا تتجاوز الطاقة الاستيعابية للتخزين في مرافقه ومخازنه 60 ألف طن فقط، وهي كمية ضئيلة تقف عاجزة تمامًا أمام محصول قياسي متوقع يفوق الـ 350 ألف طن.
كما أن وضعه المالي الكارثي وعدم توفره على السيولة النقدية اللازمة لشراء كميات كبيرة من الزيت بسعر معقول يضمن الحد الأدنى من الربح للفلاحين، قد حال دون إدماجها في الحصة السنوية لتونس المخصصة للتصدير إلى دول الاتحاد الأوروبي، والتي تتراوح في العادة ما بين 60 و100 ألف طن سنويًا من الزيت السائب والمعلب.
أرقام تكشف عمق الكارثة
تُعتبر تونس واحدة من أكبر الدول المنتجة لزيت الزيتون على مستوى العالم، حيث تضم البلاد ما يقرب من 110 ملايين شجرة زيتون، أي بمعدل 10 شجرات لكل مواطن تونسي. وتُغطّي زراعة أشجار الزيتون مساحة تقدر بمليوني هكتار، أي حوالي 45% من الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد.
يُساهم هذا القطاع الحيوي بنحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر ما يقارب 50 مليون يوم عمل سنويًا لأكثر من 250 ألف عامل، وتشكل النساء نسبة كبيرة منهم. إلا أن هذه الأرقام الإيجابية تُخفي وراءها أزمات هيكلية عميقة، وأي أزمة تطرأ في هذا القطاع تنعكس سلبًا على أكثر من 300 ألف عائلة تونسية تعتمد بشكل أساسي في معيشتها على زيت الزيتون.
الديوان الوطني للزيت، الذي يُفترض أن يكون صمام الأمان لهذا القطاع، يعيش حاليًا وضعية إفلاس غير معلنة، حيث بلغت الخسائر المتراكمة لديه 423 مليون دينار تونسي (أي ما يعادل 135 مليون دولار أمريكي) بنهاية عام 2022. وتدهورت الأموال الذاتية في تلك الفترة لتصل إلى حوالي 365 مليون دينار تونسي (أي ما يعادل 116 مليون دولار) بالسلب. وذلك على الرغم من أن الديوان يتلقى سنويًا دعمًا ماليًا يقارب 360 مليون دينار تونسي (أي ما يعادل 114 مليون دولار) لدعم الزيت النباتي المستورد، الذي لا يكاد يظهر في الأسواق بكميات قليلة حتى يختفي تمامًا في المسالك الموازية.
وقد أدت هذه الوضعية المتردية إلى توقف البنوك التونسية عن تمويل عمليات الديوان المختلفة، بينما يستمر الرئيس في إطلاق شعارات فضفاضة حول ضرورة استعادة الديوان الوطني للزيت لدوره التاريخي، دون تقديم أي حلول عملية وواقعية، لتمكين الديوان من استعادة موارده المتراكمة والمستحقة لدى الدولة، والتي تبلغ ما يقارب 430 مليون دينار تونسي (أي ما يعادل 137 مليون دولار)، أو لضمان تطوير حوكمة الديوان ومنظوماته المعلوماتية، والتصدي للفساد الخطير الذي ينخره من الداخل، والاختراقات المتكررة من طرف اللوبيات المحلية والمافيات الدولية.
مافيا الزيت العالمية: بصمة واضحة
الأزمة لم تكن ذات طابع محلي فقط، بل كشفت أيضًا عن وجود صراع دولي مُحتدم على الأسواق العالمية. فتونس، التي تفوقت في السنوات الأخيرة على إيطاليا في مجال تصدير زيت الزيتون، أصبحت هدفًا للمنافسة غير الشريفة من طرف العديد من الشركات الإيطالية التي فقدت أسواقها التقليدية، والتي يرتبط بعضها بما يُعرف بـ "الأغرومافيا" الإيطالية، وهي عبارة عن شبكات للجريمة المنظمة في إيطاليا تتغلغل بعمق في قطاع الفلاحة وسلاسل التوريد الغذائي.
تسعى هذه المافيا جاهدة للسيطرة على الأسواق من خلال اتباع ممارسات غير قانونية، منها التلاعب بجودة المنتجات واستهداف الشركات المنافسة بهدف افتكاك أسواقها بالقوة.
شركة CHO، الرائدة في السوق الأمريكية (التي تمثل 35% من السوق العالمية لتوريد زيت الزيتون)، والسوق الكندية (التي تمثل 5% من السوق العالمية)، مستهدفة منذ أشهر طويلة بسلسلة متواصلة من الأعمال الإجرامية وعمليات السرقات الممنهجة في تلك الأسواق، والتي شملت شحنات ضخمة بمئات الآلاف من زجاجات زيت الزيتون البكر الممتاز.
أضف إلى ذلك، تعرض شحنات من الزيت المصدر إلى أمريكا أثناء توقفها في أحد الموانئ الأوروبية إلى عملية تسميم مُدبرة عبر زرع دودة تم اكتشافها عن طريق التحليل الصحي الذي أُجري عند وصول الشحنات إلى ميناء أميركي. الأمر الذي أثار تساؤلات مشروعة حول تورط جهات خارجية في محاولة ضرب سمعة الزيت التونسي بهدف إعادة الأسواق التي انتزعها بجودته العالية ومذاقه الفريد.
تونس اليوم تنافس بقوة الكبار الذين بدأوا في التقهقر والتراجع في سوق الزيت العالمي، حيث بدأت تحتل منذ سنوات قليلة المرتبة الثانية عالميًا في تصدير الزيت بعد إسبانيا. وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع دول أخرى تحاول جاهدة حماية مكانتها التاريخية بشتى الوسائل والطرق. فإيطاليا، التي لطالما سيطرت على جزء كبير من السوق العالمية، تسعى جاهدة لاستعادة نفوذها المفقود من خلال استغلال أي اضطراب أو خلل في الإنتاج أو التصدير التونسي.
تزامن مريب
وقد أثار التزامن الغريب بين اشتداد الحملة الأجنبية الشرسة ضد أهم علامة تجارية تونسية في قطاع الزيت، بهدف ضرب مكاسبها الهائلة في السوق العالمية – خاصة في منطقة أميركا الشمالية، والحديث المتداول عن عرض مغرٍ من إحدى الشركات الإيطالية الكبرى لشرائها، مع الإجراءات الاستثنائية الاستعجالية المتخذة ضد مالك تلك الشركة في تونس بشكل استعراضي من طرف أعلى هرم في الدولة، ومع الحملة الإعلامية الداخلية الشعواء - شكوكًا جمة لدى العديد من الجهات المتابعة عن كثب لهذا الملف الشائك.
بل وصل الأمر بالبعض إلى حد اتهام الدوائر الرسمية بافتعال التتبعات والملاحقات القضائية ضد "إمبراطور الزيت" في تونس، وتعطيل عمل شركته بشكل ممنهج في بداية موسم واعد ومزدهر، وذلك خدمة لمصالح إيطاليا على حساب المصلحة الوطنية العليا، معتبرين أن هناك من قبض الثمن مقابل ذلك. تمامًا كما كانت معالجة قضية المهاجرين السريين الأفارقة ومنع تسللهم عبر البحر مع القبول بتوطينهم في تونس، تمامًا في خدمة الجار الشمالي ضمن اتفاقيات سرية تم إخفاؤها عمدًا عن الشعب التونسي.
في حين اعتبر البعض الآخر أن الغرض الحقيقي والهدف الأسمى من افتعال هذه الأزمة المفتعلة هو تدمير النخبة الاقتصادية القديمة، التي يعتبرها الرئيس غير منخرطة تمامًا في مشروعه الوطني، وذلك بهدف تعويضها بنخبة اقتصادية جديدة من "أنصار المسار" المؤيدين للرئيس بشكل مطلق، وذلك عبر منظومة "الشركات الأهلية" التي يدفع الرئيس بقوة إلى ضخ موارد مالية ضخمة لأجل إنجاحها ونشرها في مختلف الجهات والقطاعات، مع تمكينها في الوقت ذاته من التصرف بحرية تامة في أراضي الدولة ومنشآتها.
قصور مقاربة الدولة وضعف الإجراءات
تعاني الدولة التونسية من قصور واضح وجلي في مقاربة هذه الأزمة المعقدة، حيث اقتصرت الإجراءات المتخذة حتى الآن على إصدار بلاغات رسمية فضفاضة وعامة لا تتضمن أي خطط تنفيذية واضحة المعالم. فقد أعلنت السلطات المعنية عن نيتها شراء الزيت بأسعار تُراعي أوضاع السوق العالمية، إلا أنها لم تحدد بشكل قاطع آليات التنفيذ أو مصادر التمويل. كما أنها أعلنت عن تشجيعها لتخزين الكميات الجاهزة من الزيت، وذلك بهدف إفراغ المعاصر وتمكينها من استقبال الكميات القادمة، وخاصة أثناء عطلة نهاية السنة الميلادية، التي تنضم فيها عشرات الآلاف من العائلات التونسية، بكبارها وصغارها، إلى عملية جمع الزيتون.
إلا أن ضعف الطاقة التخزينية لدى الديوان الوطني للزيت (والتي لا تتجاوز 15٪ من الصابة المنتظرة)، وتعقُّد الإجراءات البيروقراطية للتنقل إلى العدد المحدود جدًا من مراكز التخزين، والتكلفة العالية لعملية النقل برمّتها، وتعقُّد إجراءات الخلاص وتأخره لفترات طويلة، وغياب الحوافز المشجعة، كلها عوامل مجتمعة أدت إلى عزوف المنتجين عن التعامل مع ديوان الزيت.
فالديوان الوطني للزيت، الذي كان يُفترض أن يكون جزءًا من الحل، قد بات اليوم للأسف الشديد جزءًا من المشكلة، وتحول من أداة فاعلة لدعم الفلاحين وتعديل السوق إلى عبء ثقيل على القطاع بأكمله.
والأزمة تواصل الاستفحال والتفاقم يومًا بعد يوم، لأنه لا أحد في الدولة يجرؤ على اتخاذ قرارات جدية وحاسمة تقطع مع الشعارات الشعبوية الفارغة والجوهر؛ خوفًا من الإقالة المفاجئة أو التعرض لحملات التشهير الممنهجة. فالجميع مطالب بتبني السردية الرسمية التي يقدّمها الرئيس، والتي تزعم أن الأزمة مفتعلة ومدبرة وتقف وراءها لوبيات الفساد التي تتآمر مع الخونة بهدف تعطيل "حربه المقدسة لتطهير البلاد من الفساد".
وما يحصل اليوم من ارتباك وتخبط واضح من طرف أجهزة الدولة المعنية بقطاع الزيت، يبيّن بجلاء كيف أن الشعبوية المدمرة تقتل روح المبادرة والمسؤولية، وتضرب عرض الحائط المصلحة الوطنية العليا.
حلول لإنقاذ القطاع: بين العقلانية والمسؤولية
لحل هذه الأزمة المستفحلة في قطاع زيت الزيتون في تونس، يتطلب الأمر تبني نهج شامل ومتكامل يجمع بين التدخلات الفورية والإصلاحات الجوهرية طويلة المدى.
على المدى القريب والعاجل، يجب أن تعمل الدولة جاهدة على تخصيص ميزانية استثنائية لدعم كل من ديوان الزيت والشركات المصدرة، مع تحديد أسعار دنيا مضمونة للزيت، مما يضمن استقرار السوق ويخفف الأعباء المالية عن كاهل الفلاحين. بالإضافة إلى ذلك، يجب توفير سيولة نقدية طارئة للديوان الوطني للزيت، وتوسيع طاقاته التخزينية بشكل عاجل عبر الاستفادة من المنشآت العامة المتاحة. كما ينبغي أن تُطلق الدولة حملات ترويجية عالمية مكثفة لتسويق زيت الزيتون التونسي، وإبراز جودته العالية ومواصفاته الفريدة وإعادة بناء سمعة العلامة التجارية الوطنية.
أما على المدى الطويل، فإن الإصلاحات الهيكلية الشاملة ضرورية وحتمية لتعزيز الحوكمة الرشيدة داخل ديوان الزيت، والشركة الخاصة التي أنشأها للإشراف على تصدير الزيت، مع الاستفادة القصوى من الامتيازات الممنوحة للشركات الخاصة المصدرة، وضمان الشفافية والكفاءة في عملياتهما.
يجب أن يترافق ذلك مع تطوير شامل للبنية التحتية للنقل والتخزين بهدف تحسين كفاءة الإنتاج والتصدير، مع تعزيز الرقابة الصارمة على عمليات الصادرات لمنع الهيمنة الأجنبية وحماية المنتجين المحليين. وعلى الصعيد الدولي، ينبغي على تونس التفاوض الجاد مع الشركاء الأوروبيين لحماية حصتها العادلة في الأسواق العالمية، مع وضع قوانين صارمة ورادعة لمواجهة الممارسات الاحتكارية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتونس أن تعزز من دور التمثيليات الدبلوماسية في دعم مصالح المصدرين وفتح أسواق جديدة واعدة. هذه الخطوات مجتمعة يمكن أن تشكل خارطة طريق واضحة لإنقاذ القطاع من الانهيار المحتوم، وتحويل الأزمة الراهنة إلى فرصة سانحة لتطوير صناعة زيت الزيتون، وتحقيق نقلة نوعية في موقع تونس التنافسي على الصعيد العالمي.
الأزمة تلد الفرصة
إن أزمة زيت الزيتون الحالية في تونس ليست مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هي نقطة تحول حاسمة تكشف بجلاء عن مدى قدرة الدولة على حماية مواردها الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة المنشودة. والحل لن يكون ممكنًا ومتاحًا إلا من خلال التخلي التام عن الشعبوية والخطابات الجوفاء والالتزام بسياسات عقلانية واقعية قائمة على الشراكة الحقيقية بين القطاعين العام والخاص، مع إشراك فعال للمجتمع المدني والخبراء المتخصصين في صياغة الحلول الناجعة.
ومن الأمثلة الملهمة التي يمكن لتونس أن تستفيد منها إلى حد كبير، تجربة إسبانيا الرائدة، حيث نجحت ببراعة في تعزيز موقعها المتميز في الأسواق العالمية بفضل الاستثمار الأمثل في الجودة العالية، وتطوير العلامات التجارية الوطنية المرموقة، واعتماد أحدث التقنيات المتطورة في مجالات الإنتاج والتعبئة والتغليف. وهذه التجربة الناجحة تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الإرادة السياسية القوية والإدارة الحكيمة الرشيدة يمكن أن تحوّلا التحديات الصعبة إلى فرص ذهبية.
وفي هذا السياق، يجب على تونس أن تستغل هذه الأزمة الراهنة لتعزيز تنافسيتها الدولية بشكل كبير من خلال تحسين جودة منتجاتها وزيادة تنويعها وتوسيع شبكة توزيعها العالمية. فالاستثمار في التكنولوجيا الحديثة المتطورة، وتطوير أساليب التعبئة والتسويق المبتكرة لا يقل أهمية على الإطلاق عن تحسين الحوكمة وتعزيز الشفافية والمصداقية داخل المؤسسات والهيئات الوطنية.
وفي النهاية، تقع المسؤولية التاريخية الكبرى على عاتق القيادة السياسية الحالية، التي يجب أن تتجاوز كافة الشعارات الرنانة وتتحمل مسؤوليتها الكاملة في إعادة بناء هذا القطاع الحيوي. فتونس تمتلك كافة المقومات والإمكانات اللازمة لتصبح رائدة عالمية في إنتاج زيت الزيتون عالي الجودة، ولكن تحقيق هذا النجاح المنشود يتطلب رؤية واضحة بعيدة المدى وإستراتيجيات مدروسة بعناية فائقة.
وبدون تلك الرؤية الثاقبة، وبمواصلة هذا التخبط الشعبوي العشوائي، سيستمر الانهيار والتدهور، مصداقًا لقول الفيلسوف الروماني الشهير سينيكا: "عندما لا نعرف إلى أي ميناء نتجه، تصبح جميع الرياح غير مواتية".
إن تونس اليوم بأمس الحاجة إلى ربّان ماهر يقود سفينتها بحكمة وروية نحو بر الأمان، حيث تتحول التحديات إلى فرص واعدة، وتصبح أزمة الزيتون نقطة انطلاق حقيقية لنهضة اقتصادية شاملة ومستدامة.